لا ينجسُ الماءُ إلا بالتَّغيُّر
ذهبِ كثيرٌ مِن أهل العلم [1] -وهو المشهورُ في مذهب الإمام أحمد [2] والشّافعي [3] وأبي حنيفة [4]– إلى أنّ الماء قسمان:
* القسم الأول: كثيرٌ لا ينجسُ إلّا بالتَّغيّر.
* القسم الثاني: قليلٌ ينجسُ بمجرّد ملاقاة النَّجاسة.
أخذًا مِن حديث القلَّتين [5]، وحديثُ القلَّتين فيه مناقشة طويلة [6]؛ فقد صحَّحه بعضُهم، كما ذكر الحافظ: صحَّحه الحاكمُ وابنُ خزيمة [7]، هو مُتَكلّم فيه كلام كثير: في سنده، وفي دلالته أيضًا [8].
والصَّواب: أنّ حكم الماء واحد، والماءُ -قليلًا كان أو كثيرًا- لا ينجسُ إلّا أن يتغيَّر أحدُ أوصافه بنجاسة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة [9].
وهذا هو القول الصَّحيح الذي لا يسع جمهور النّاس إلا هو؛ لأنّ تطبيق القليل والكثير لا يعرفه معظمُ النَّاس، لا يعرفه إلّا أصحاب الخبرة، وهذا مما يحتاج إليه عامة النّاس في الطّهارة والماء؛ بل حتى أصحاب النَّظر يمكن أن يشكّوا، يمكن أن يقول: يحتمل أنّه بلغ أو لم يبلغ ! ومَن قال بالقلَّتين قدّروه بأربع أو خمس قِرَب، و"القرب" أيضًا يختلفون في مقدارها، فهذا أيضًا مما يقدح في هذا المذهب.
وللقول الذي رجَّحناه استدلالات، منها: حديثُ بول الأعرابي [10]، وأنّ الرَّسول -صلّى الله عليه وسلّم- أمرَ بصبِّ ذنوب مِن الماء على بول الأعرابي في الأرض وجعل ذلك تطهيرًا، مع أنّ الماء اختلط بالبول على الأرض.
فلو كان الماءُ ينجسُ بمجرَّد ملاقاة النَّجاسة لزم مِن ذلك: أنّ الماء تنجس بملاقاة البول، وأصبح صبّ الماء على البول في الأرض زيادة تنجيس لمساحة أكثر !
وبعضُهم فرّق بين ورود الماء على النَّجاسة، وورود النَّجاسة على الماء، فقالوا: إذا وردت النَّجاسةُ على الماء فالحكمُ ما تقدَّم، فإنّه ينجسُ إذا كان قليلًا، بخلاف ما إذا ورد الماء على النَّجاسة.
ومِن حيث النَّظر والعقل: لا نجد فرقًا سواء وردت النَّجاسةُ على الماء، أو ورد الماءُ على النَّجاسة؛ النَّتيجة أنّ النَّجاسة اختلطت بالماء.
ثم يقال: إنّ حديث القلَّتين فيه اضطراب، ومِن ناحية أخرى يقال: دلالته مِن قبيل دلالة المفهوم؛ فهو معارض بمنطوق حديث أبي سعيد: (إنَّ الماء طهورٌ لا ينجِّسُه شيء) [11].
فحديث القلتين: دلالته على نجاسة ما دون القلتين دلالة مفهوم، ودلالة المفهوم تتحقق ولو بصورة واحدة، ويمكن أن يتصور أن الماء إذا كان دون القلتين فإنه يصير أقرب للنجاسة، أي يُتصور فيه النجاسة أكثر مما إذا كان الماء كثيرًا، وكلما قلّ الماء صار احتماله للنجاسة أو احتمال تأثره بالنجاسة أقرب، وهذا يختلف أيضًا باختلاف مقدار النجاسة التي تقع[12].
|
وأخرجه الشافعي في "مسنده" ص7، ورقم 36 بترتيب السندي، والدارقطني 3 – 10 و13، وابن الجارود 44، وابن حبان 1253، والحاكم 459 و460، والبيهقي 1232 و1239 و1234 و1237 من طرق، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، به.
قال الدارقطني في "العلل" 12/434، رقم 2872: "فصح القولان عن أبي أسامة، بهذه الرواية"
وقال الحاكم عقب حديث 460: "هذا خلاف لا يوهن هذا الحديث، فقد احتج الشيخان جميعًا بالوليد بن كثير ومحمد بن عباد بن جعفر، وإنما قرنه أبو أسامة إلى محمد بن جعفر، ثم حدث به مرة عن هذا ومرة عن ذاك "
وأخرجه الحاكم 461، وعنه البيهقي 1235 من طريق شعيب بن أيوب،عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، به.
قال الحاكم عقبه: "وقد صح وثبت بهذه الرواية صحة الحديث، وظهر أن أبا أسامة ساق الحديث عن الوليد بن كثير عنهما جميعًا، فإن شعيب بن أيوب الصريفيني ثقة مأمون، وكذلك الطريق إليه، وقد تابع الوليد بن كثير على روايته عن محمد بن جعفر بن الزبير محمد بن إسحاق بن يسار القرشي"
وللحديث طرق أخرى وشواهد عن عدد من الصحابة وصححه جمع كبير من أهل العلم. ينظر: "الإمام" 1/200 لابن دقيق، "نصب الراية" 1/104، "البدر المنير" 1/404، "التلخيص الحبير" 1/135، رقم 4، "إرواء الغليل" 1/60، رقم 23.
وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج؛ فلم يوثقه غير ابن حبان في "ثقاته" 3904، رقم 3904.
قال ابن القطان في" الوهم والإيهام" : "لا يُعرف له حال ولا عين "
وقال الحافظ في "التقريب " 4313: "مستور"
والحديث صححه أهل العلم بالحديث. قال الحافظ في "التلخيص" 1/125: " صححه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو محمد بن حزم" وله طرق وشواهد انظرها في "البدر المنير" 1/381، و"التلخيص الحبير" 1/125، رقم 2، و"إرواء الغليل" 1/45، رقم 14.